التحولات العالمية في العمل الرقمي وأهمية التنظيم القانوني

شهد العالم خلال السنوات الأخيرة طفرة هائلة في أنماط العمل، مع انتشار المنصات الرقمية التي أصبحت قناة أساسية لتوفير فرص عمل مرنة وسريعة، سواء من خلال العمل الجزئي أو العمل الحر أو حتى المهام القصيرة المعروفة بـ”gig work”. هذا النمو السريع خلق بيئة جديدة مغايرة تمامًا لأسواق العمل التقليدية، حيث أصبح العامل قادرًا على تقديم خدماته عبر تطبيق أو موقع إلكتروني دون الحاجة إلى الارتباط بمكان عمل ثابت أو ساعات دوام محددة.

ورغم ما يقدمه هذا النموذج من فرص اقتصادية هائلة، فإنّه كشف عن مشكلات عميقة تتعلق بالحماية القانونية للعاملين. فالعاملون عبر المنصات غالبًا ما يفتقدون إلى مظلة الضمان الاجتماعي، ويعانون من أجور غير مستقرة، فضلًا عن غياب الوضوح بشأن طبيعة العلاقة التعاقدية بينهم وبين المنصات. ومن زاوية أخرى، تمثل إدارة العمل عبر الخوارزميات تحديًا جديدًا، حيث قد يُوقف حساب العامل أو يُخفض أجره بقرار آلي لا يخضع للمراجعة البشرية. هذه التحديات تجعل من الضروري وجود تنظيم قانوني متكامل يواكب طبيعة هذا العمل الجديد.

 الفجوات التي تواجه العمل عبر المنصات

تشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أن ما يقرب من نصف العاملين على المنصات الرقمية يعتمدون على هذه الأعمال كمصدر ثانوي للدخل، بينما يعتمد آخرون عليها بشكل أساسي رغم أنها لا توفر لهم الاستقرار المطلوب. ففي دراسة ميدانية شملت أكثر من 12 ألف عامل في 85 دولة، اتضح أن الأغلبية لا يتمتعون بأي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، ولا يحصلون على تأمين صحي أو معاش تقاعدي، ما يضعهم في مواجهة مباشرة مع المخاطر الاقتصادية والاجتماعية.

وتكشف هذه الدراسات أيضًا أن الأجور غالبًا ما تكون متقلبة، إذ تتأثر بقرارات خوارزمية تحدد متى يحصل العامل على مهامه ومقدار ما يتقاضاه. إضافة إلى ذلك، فإن طبيعة التعاقد نفسها تظل غامضة، حيث تصر معظم المنصات على اعتبار العامل “متعاقدًا مستقلاً” وليس “موظفًا”، ما يحرم هؤلاء الأفراد من حقوق قانونية أساسية مثل التعويض عن الفصل التعسفي أو إجازات الأمومة والمرض. هذه الفجوات الثلاث – غياب التشريعات الواضحة، وعدم استقرار الأجور، وسيطرة الخوارزميات – تمثل لبّ المشكلة التي يواجهها العمل الرقمي عالميًا.

التجارب العالمية والحلول المطروحة 

أمام هذه التحديات، بدأت العديد من الدول والمنظمات الدولية في صياغة حلول وتشريعات جديدة تسعى لتحقيق التوازن بين مرونة العمل عبر المنصات وبين حماية حقوق العاملين. الاتحاد الأوروبي يُعد من أبرز الأمثلة في هذا السياق، حيث اعتمد التوجيه الأوروبي للعمل عبر المنصات (EU Platform Work Directive 2024/2831). هذا التوجيه يفرض افتراضًا قانونيًا بأن العامل يُعتبر موظفًا إذا كانت هناك دلائل على وجود علاقة إشراف وسيطرة من قبل المنصة، مع إعطاء الحق لهذه الأخيرة في تقديم ما يثبت عكس ذلك.

كما يشدد التوجيه على ضرورة أن تكون الخوارزميات المستخدمة في إدارة العاملين شفافة، بحيث يُمنع اتخاذ قرارات مصيرية – مثل إيقاف الحساب أو تخفيض الأجر – بناءً على أنظمة آلية بحتة دون إشراف بشري. ويذهب أبعد من ذلك بحظر استخدام البيانات الشخصية الحساسة، مثل الميول النفسية أو المعتقدات الفكرية، ضمن عمليات التقييم. ومن المتوقع أن يدخل هذا التوجيه حيز التنفيذ الكامل في الدول الأعضاء بحلول ديسمبر 2026، ما يتيح فترة انتقالية لتطوير التشريعات الوطنية.

إلى جانب ذلك، تقدّم منظمة العمل الدولية ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توصيات عملية لدمج العاملين عبر المنصات ضمن أنظمة الحماية الاجتماعية، عبر صيغ مبتكرة تتيح لهم المساهمة في نظم التأمينات بشكل مرن يتناسب مع طبيعة أعمالهم. هذه الحلول العالمية تفتح الباب أمام الدول لتبني أطر تنظيمية أكثر عدالة وفعالية.

التجربة السعودية: خطوات متقدمة نحو تنظيم عادل

في هذا السياق العالمي، برزت المملكة العربية السعودية كنموذج إقليمي متقدم في التعامل مع تحديات العمل الرقمي. ففي 19 فبراير 2025 دخلت تعديلات جوهرية على نظام العمل السعودي حيز التنفيذ، لتؤكد توجهًا استباقيًا يواكب التحولات العالمية ويعزز مكانة المملكة كسوق عمل حديث ومتطور.

من بين هذه التعديلات، جرى الاعتراف بأنماط عقود جديدة مثل العقود المرنة والعمل عن بُعد والعمل الموسمي، وهو ما يتوافق مع طبيعة العمل الرقمي الذي يقوم على المرونة. كما ألزمت التعديلات أصحاب العمل باستخدام المنصة التقنية “قوى” (QIWA) لتوثيق العقود إلكترونيًا، ما يعزز من الشفافية ويمنع النزاعات الناشئة عن غياب التوثيق.

كذلك أولت التعديلات اهتمامًا بحقوق العاملين الإنسانية والاجتماعية، عبر توسيع نطاق الإجازات، سواء كانت للأمومة أو الأبوة أو الحالات العائلية الطارئة. كما وضعت ضوابط دقيقة لإنهاء العقود، وألزمت أصحاب العمل بالالتزام بأطر زمنية محددة عند معالجة استقالات العاملين أو نزاعات الأجور. هذه الخطوات جعلت من المملكة واحدة من أوائل الدول التي سعت جديًا لمعالجة التحديات الرقمية من خلال أدوات قانونية واضحة وفعالة.

الخلاصة نحو سوق عمل رقمي متوازن

من الواضح أن العمل الرقمي لم يعد ظاهرة عابرة، بل أصبح ركنًا أساسيًا في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فإن نجاح هذا النموذج يعتمد على إيجاد التوازن بين الابتكار والمرونة من جهة، وضمان الحقوق الأساسية للعاملين من جهة أخرى. التجربة الأوروبية تقدم حلولًا تشريعية متقدمة، في حين تظهر التجربة السعودية أن من الممكن تطبيق هذه المبادئ في إطار وطني يراعي الخصوصية المحلية ويخدم رؤية التنمية الشاملة.

المستقبل يتطلب استمرار تطوير الأطر التنظيمية، وتعزيز الشفافية في إدارة الخوارزميات، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية لتشمل جميع العاملين. بهذا النهج يمكن تحويل العمل الرقمي من مصدر للقلق الاجتماعي إلى أداة رئيسية للنمو الاقتصادي العادل والمستدام، بما يحقق مصلحة العمال والمنصات على حد سواء.

تم تعطيل التعليقات.