لم يعد الذكاء الاصطناعي ترفًا تقنيًا أو مجرد موضوع للنقاش الأكاديمي، بل أصبح واقعًا ملموسًا يطرق أبواب المهن القانونية بقوة. ففي الوقت الذي يزداد فيه اعتماد القطاعات المختلفة على الأتمتة والتحليلات الذكية، يشهد المجال القانوني تحولًا نوعيًا. تقارير Thomson Reuters لعام 2025 أوضحت أن غالبية المحامين أصبحوا أكثر تقبلًا لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية، خاصة في مهام البحث والصياغة القانونية. وفي السعودية، تهيأت البيئة الرقمية والقانونية لهذا التحول من خلال منصّات مثل ناجز، إضافةً إلى الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي التي تقودها سدايا، مما يجعل السوق السعودي نموذجًا واعدًا في هذا المجال.

 

ماهية الذكاء الاصطناعي القانوني

عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي في القانون فنحن لا نقصد مجرد برامج ذكية تكتب نصوصًا عامة، بل نعني أنظمة متخصصة تساعد المحامي والمستشار القانوني في إنجاز مهام معقدة بسرعة ودقة أكبر. على سبيل المثال، هناك أنظمة تحليل ذكي تقوم بفرز آلاف المستندات في وقت قصير وتحديد ما هو ذو صلة بالقضية. وهناك أيضًا النماذج التوليدية التي تستطيع صياغة مسودات أولية للعقود أو تلخيص أحكام قضائية طويلة، لتترك للمحامي مهمة المراجعة والتدقيق. كذلك ظهرت أنظمة “وكلاء افتراضيين” قادرة على تنفيذ مهام متتابعة مثل إعداد قائمة تحقق قانونية أو مراجعة الامتثال لسياسة معينة. وأخيرًا، أصبحت هناك نماذج لغوية قانونية مدربة على نصوص قضائية وتشريعية، مما يمنحها دقة أعلى في التعامل مع لغة القانون.

 

الذكاء الاصطناعي في القانون يقود تحولات عالمية

الأرقام العالمية تكشف عن تسارع كبير في هذا السوق. فقد قدّرت Grand View Research حجم سوق الذكاء الاصطناعي القانوني بنحو 1.45 مليار دولار عام 2024 مع توقعات بنمو سنوي مركب يتجاوز 17% حتى عام 2030. هذه الأرقام لا تعكس مجرد توسع اقتصادي، بل تشير أيضًا إلى حجم الثقة المتزايدة في استخدام هذه التقنيات. ويظهر ذلك بوضوح في مجال الاكتشاف الإلكتروني، حيث تساعد الخوارزميات على معالجة ملايين الرسائل والمستندات لتحديد الأدلة المهمة في الدعاوى الكبرى، وهو ما كان يستغرق سابقًا أسابيع من العمل البشري المكثف.

 

ملامح السوق السعودي في الذكاء الاصطناعي القانوني 

في السعودية، لا يقتصر الأمر على التوجه نحو الرقمنة بل أصبح واقعًا مطبقًا على نطاق واسع. منصّة ناجز القضائية مثلًا قدّمت أكثر من 43 مليون خدمة رقمية خلال النصف الأول من 2024، فيما وصل عدد جلسات التقاضي الإلكتروني في النصف الأول من 2025 إلى 1.3 مليون جلسة. هذه الأرقام تكشف عن تحول نوعي في كيفية إدارة القضايا داخل المملكة. إلى جانب ذلك، جاءت الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي لتضع الأسس الحاكمة لهذا التحول، بينما شكّل قانون حماية البيانات الشخصية (PDPL) الصادر عام 2021 والنافذ في سبتمبر 2024 إطارًا تنظيميًا مهمًا يضمن أن هذا التحول يتم بطريقة آمنة تحمي حقوق الأفراد والبيانات الحساسة. الأثر الاقتصادي أيضًا لا يمكن تجاهله، إذ تشير توقعات PwC إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يضيف نحو 135 مليار دولار إلى الاقتصاد السعودي بحلول 2030.

 

مجالات توسع الذكاء الاصطناعي في القانون

الذكاء الاصطناعي أصبح حاضرًا في مراحل مختلفة من العمل القانوني. في البداية، يسهّل البحث القانوني من خلال تلخيص السوابق القضائية وإبراز النقاط الجوهرية، مما يوفّر على المحامي ساعات طويلة من البحث اليدوي. كما دخل مجال مراجعة العقود، حيث يمكنه التعرف على الشروط غير المألوفة أو المخاطر القانونية المخفية، بل ومطابقة العقود مع ضوابط مثل قانون حماية البيانات. وفي المحاكم والقضايا الكبرى، أصبح الاكتشاف الإلكتروني يعتمد على الذكاء الاصطناعي لفرز ملايين المستندات، وهو ما يوفّر الوقت والجهد. كذلك يُستخدم في التحليلات التنبؤية للقضايا، حيث يمنح المحامي تقديرًا مبدئيًا لفرص النجاح أو احتمالات التسوية. أما في الأتمتة المكتبية، فهو يساهم في إعداد المسودات الأولى للمذكرات والطلبات، مع ترك مساحة للمراجعة النهائية من المحامي. حتى في التقاضي الإلكتروني، ظهر دوره في الترجمة الذكية وتوجيه المتقاضين خطوة بخطوة داخل المنصة.

 

التحديات والمخاطر

رغم كل هذه المزايا، إلا أن التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي لا يخلو من مخاطر. أحد أبرز التحديات هو ما يعرف بـ”هلوسة النماذج”، أي إنتاج مراجع أو وقائع غير صحيحة قد تضر بالقضية إن لم تتم مراجعتها. كذلك يظل موضوع حماية السرية والبيانات في غاية الأهمية، إذ لا يجوز إدخال معلومات عملاء حساسة في أدوات عامة قد تستخدم البيانات للتدريب. وهناك أيضًا مخاوف متعلقة بالملكية الفكرية وحدود استخدام المخرجات الآلية في المستندات الرسمية. أما من الناحية المهنية، فيتوجب تحديث عقود التأمين المهني لمكاتب المحاماة بحيث تغطي المخاطر المحتملة الناتجة عن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.

 

خطوات عملية لتبني الذكاء الاصطناعي في مكاتب المحاماة

الخطوة الأولى تتمثل في إنشاء لجنة حوكمة داخلية للذكاء الاصطناعي تضم خبراء قانونيين وتقنيين وأمن معلومات لضمان استخدام مسؤول. بعد ذلك يجب رسم خريطة لتدفق البيانات وتحديد ما هو مسموح وما هو محظور إدخاله في هذه الأنظمة. الخطوة الثالثة هي صياغة سياسة استخدام مكتوبة وواضحة تحدد حقوق ومسؤوليات المحامين عند استخدام الأدوات. من المهم أيضًا تدقيق العقود مع الموردين بما يتماشى مع متطلبات PDPL نظام حماية البيانات الشخصية السعودي، وضمان أن المعالجة تتم داخل بيئات آمنة وخاصة. ويمكن البدء بمشاريع صغيرة مثل تلخيص أحكام أو مراجعة عقود محددة، مع فرض مراجعة بشرية إلزامية على جميع المخرجات. التدريب المستمر للمحامين عنصر أساسي، إذ يساعدهم على فهم حدود الذكاء الاصطناعي وكيفية الاستفادة منه دون تجاوز الإطار الأخلاقي أو القانوني. وأخيرًا، يجب وضع آليات لقياس النتائج والتوسع التدريجي حتى الوصول إلى مرحلة التكامل مع أنظمة إدارة القضايا والوثائق في المكتب.

 

الأطر المقارنة والامتثال

ما يميز السوق السعودي أنه لا يتحرك في فراغ، بل يستند إلى إطار تشريعي واضح مثل PDPL ومبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي التي أطلقتها سدايا. على المستوى الدولي، يشكل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (AI Act) الذي دخل حيّز التنفيذ في 2024 مرجعًا مهمًا، خاصة عند التعامل مع قضايا أو عقود عابرة للحدود. كما أصدرت الرابطة الدولية للمحامين (IBA) توصيات مهمة حول ضرورة الشفافية والتدريب عند استخدام الذكاء الاصطناعي. هذه الأطر المختلفة تساعد مكاتب المحاماة السعودية على صياغة سياسات داخلية متوافقة مع أفضل الممارسات العالمية.

 

الأثر المتوقع على الممارسة القانونية

من المتوقع أن يؤدي إدخال الذكاء الاصطناعي إلى إعادة تشكيل نموذج العمل في المهنة القانونية. مكاتب المحاماة قد تتحول من نظام تسعير الساعات إلى التسعير القيمي في بعض المهام التي أصبحت أكثر كفاءة. أما الإدارات القانونية داخل الشركات فسوف تستفيد من تقليص زمن مراجعة العقود الروتينية ومراقبة الامتثال بشكل آلي. وفي المحاكم، فإن دمج الذكاء الاصطناعي مع منصّات مثل ناجز سيحسن تجربة المتقاضين ويوفر لهم خدمات أسرع وأكثر دقة.

 

قالب سياسة استخدام الذكاء الاصطناعي في مكتب محاماة

تقوم هذه السياسة على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تضمن الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي داخل المكتب. تبدأ السياسة بمبدأ الشفافية، إذ يتعين على كل موظف الإفصاح عند استخدامه لأي أداة قائمة على الذكاء الاصطناعي أثناء إعداد مستند أو بحث قانوني. يلي ذلك مبدأ المراجعة البشرية، حيث لا يجوز اعتماد أي مخرج آلي دون مراجعة دقيقة من محامٍ مختص. كما تنص السياسة على حماية البيانات بشكل صارم، بحيث يُمنع إدخال أي بيانات سرية أو خاصة بالعملاء في أدوات عامة.

ولكي يظل المكتب ملتزمًا بالقانون، تضع السياسة التزامًا واضحًا بالتوافق مع قانون حماية البيانات الشخصية (PDPL)، مع التشديد على أن المسؤولية المهنية تبقى في يد المحامي حتى لو ساعدته أداة ذكية في إنجاز جزء من العمل.

من الناحية العملية، تتضمن السياسة آلية تحقق داخلية للتأكد من الامتثال مع PDPL. فيتم تصنيف البيانات قبل استخدامها، والتأكد من وجود أساس قانوني لمعالجتها، ووضع قيود صارمة على نقلها خارج المملكة، مع ضمان حقوق الأفراد في الاطلاع والتصحيح والحذف. كذلك يجب أن تكون هناك خطة واضحة لإخطار السلطات والعملاء في حالة حدوث أي خرق للبيانات.

أما فيما يتعلق بالتعاقد مع مورّدي أدوات الذكاء الاصطناعي، فتفرض السياسة تضمين بنود صريحة في العقود تنص على أن البيانات الخاصة بالمكتب تظل ملكًا حصريًا له، وأن المورّد ملزم بعدم استخدامها للتدريب أو مشاركتها مع أطراف أخرى. كما يجب تحديد موقع تخزين ومعالجة البيانات، ومنح المكتب حق التدقيق على أنظمة المورّد للتأكد من الالتزام، بالإضافة إلى التزام المورّد بحذف جميع البيانات عند انتهاء العلاقة التعاقدية وإخطار المكتب فورًا في حال وقوع أي خرق أمني.

بهذا الشكل، تصبح سياسة استخدام الذكاء الاصطناعي أداة وقائية تنظم الممارسة وتحمي المكتب والعملاء معًا، وتمنح المحامين الثقة في أن ما يستخدمونه من تقنيات حديثة يخضع لإطار قانوني وأخلاقي متين.

 

الخلاصة

يمثل الذكاء الاصطناعي نقطة تحول محورية في قطاع القانون، إذ لم يعد مجرد أداة مساعدة بل أصبح عنصراً استراتيجياً يعيد تشكيل أسلوب تقديم الخدمات القانونية وإدارة العدالة. ومع تسارع وتيرة تبني هذه التقنيات في السوق العالمي والسعودي، تتأكد الحاجة إلى وضع سياسات واضحة تحكم استخدامه بما يضمن الامتثال للمعايير الأخلاقية وحماية البيانات وبناء الثقة، وفي الوقت ذاته يتيح للمحامين والمكاتب القانونية تحقيق كفاءة أعلى ومواكبة متطلبات المستقبل، ليصبح الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية في المشهد القانوني الحديث.

تم تعطيل التعليقات.