في العقد الأخير، لم تعد الجرائم المعلوماتية أحداثًا استثنائية، بل أصبحت جزءًا متناميًا ومؤثرًا في الواقع القضائي. ومع تعقّد الوسائل التقنية التي تُستخدم في ارتكاب هذه الجرائم، ازدادت الحاجة إلى تطوير أدوات الإثبات الرقمي وأساليب الاستدلال والتحقيق، وخصوصًا الأدلة الرقمية غير المباشرة، التي تختلف عن الأدلة التقليدية في كونها لا تُظهر الفعل الإجرامي مباشرة، بل تُستدل عليها من آثار وسوكليات رقمية ضمن بيئة افتراضية معقدة. فهذه الأدلة تنشأ في بيئة افتراضية معقدة، تتداخل فيها الأنظمة التقنية وتتوارى الأفعال خلف طبقات من التشفير والعناوين الرقمية المتغيرة، ما يجعل التعامل معها تحديًا مزدوجًا يجمع بين متطلبات التحليل الفني للتقنية واشتراطات الإطار القانوني والإجرائي.

ورغم إدراك المنظّم لخطورة هذا النوع من الجرائم من خلال إصدار نظام مكافحة جرائم المعلوماتية عام 1428هـ، فإن الإطار الإجرائي الحالي، المتمثل في نظام الإجراءات الجزائية التقليدي، لم يُصمَّم للتعامل مع أدلة غير ملموسة أو قابلة للتغيير بسهولة. وهذا الواقع يفرض إعادة النظر في منهجية جمع الأدلة الرقمية وتحليلها وتوثيقها، لضمان سلامتها وحجيتها أمام الجهات القضائية، بما يتوافق مع تعقيدات العصر الرقمي ومتطلبات العدالة.

تُستخدم الأدلة الرقمية غير المباشرة في الجرائم المعلوماتية كأداة استدلالية للوصول إلى الفاعل المحتمل، أو لتحديد ما إذا كان الشخص المرتبط بعنوان رقمي معين هو المسؤول عن النشاط المشتبه فيه بالفعل. فهي لا تثبت الفعل الإجرامي نفسه مباشرة كما تفعل الأدلة التقليدية مثل ضبط أداة الجريمة أو بصمة اليد، بل تكشف عن آثار وسلوكيات رقمية تشير إلى وقوع الفعل الإجرامي. بعد ذلك، يتم تحليل هذه الأدلة واستدلالها لتحديد ارتباطها بالفاعل، بحيث تصبح حجيتها أمام الجهات القضائية قوية فقط عند جمعها وتوثيقها وتحليلها بطريقة منهجية دقيقة.

تواجه النيابة العامة، بصفتها جهة التحقيق، تحديًا مزدوجًا عند التعامل مع هذه الأدلة: فهي تحتاج أولًا إلى فهم تقني دقيق لمصدر الدليل وطبيعة تكوينه، وثانيًا إلى إطار إجرائي يضمن سلامة استخلاصه وتوثيقه بما يعزز حجّيته أمام الجهات القضائية. إلا أن الواقع العملي يُظهر تفاوتًا في الممارسة بين القضايا تبعًا لاختلاف الجهات الفنية المساندة ومستوى الكفاءة الرقمية لدى القائمين على جمع الأدلة.

أما الجهات القضائية، فتبدي في كثير من القضايا حذرًا مشروعًا عند تقييم الأدلة الرقمية غير المباشرة. فالمسألة لا تتعلق فقط بصحة الدليل، بل بمدى قانونية الطريقة التي جُمِع بها، وسلامة تسلسله الزمني، وثبوت انتسابه إلى المتهم دون تدخل أو تعديل. خشية الاعتماد عليه وحده كوسيلة إثبات، لا سيما في القضايا ذات الطابع الفني العالي.

هذا التردّد القضائي لا يعكس ضعفًا، بل يُظهر محدودية الإطار الإجرائي الحالي في مواكبة التطور التقني. فالنظام الإجرائي الجزائي وُضع في زمن كانت فيه الجرائم تُرتكب في حيّز مادي، وتُثبت بشهادة أو بصمة أو ضبط مادي. أما اليوم، فقد أصبحت الجرائم الرقمية تتجاوز الحدود المادية التقليدية: قد يقوم شخص بفعل إجرامي داخل الدولة، بينما تظهر آثار هذا الفعل على خوادم أو في بيئة سحابية تقع خارج نطاق السيطرة المباشرة للدولة. ومع ذلك، يظل للجهات القضائية الحق في ممارسة اختصاصها على هذه الجرائم، لأن الفعل الأصلي وفاعله يقعان ضمن نطاق الدولة ويؤثران على ممتلكاتها أو حقوق مواطنيها.

من هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى نظام إجراءات جزائية خاص بالجرائم المعلوماتية يتعامل مع خصوصية هذا النوع من الأدلة. ولا ينبغي أن يكون هذا النظام مجرد تعديل للنظام القائم، بل منظومة مستقلة تراعي العناصر الفنية للجرائم المعلوماتية، وتضع معايير دقيقة لسلسلة الحيازة (Chain of Custody)، وتُلزم الجهات المختصة بتوثيق الأدلة الرقمية وفق بروتوكولات معترف بها فنيًا وقضائيًا.

إن مفهوم العدالة الرقمية لا يكتمل إلا بوجود طب شرعي رقمي معتمد وفاعل، يعمل كجسر بين العلم الجنائي والنظام الإجرائي. فالطب الشرعي الرقمي ليس مجرد تحليل تقني للأجهزة، بل علم متخصص يضمن النزاهة التقنية في جميع مراحل التعامل مع الأدلة من لحظة ضبط الجهاز أو الخادم إلى تحليل البيانات وحتى عرض النتائج أمام الجهات القضائية. وهذا التخصص يجب أن يُعامل في المنظومة العدلية كفرع أصيل من فروع الإثبات، لا كمجرد دعم فني.

وقد كشفت الممارسات الحديثة أن التحقيق في الجرائم المعلوماتية دون بنية إجرائية رقمية متكاملة يضع العدالة في موقف حرج، إذ تصبح سلامة الدليل رهينة كفاءة فردية لا بضمانة نظامية عامة. ومن هنا تظهر الحاجة الملحّة إلى استقلال نظام الإجراءات الجزائية للجرائم المعلوماتية عن النظام العام، نظرًا لطبيعة هذه الجرائم القانونية المغايرة في جوهرها.

كما تبرز ضرورة تدريب جميع الأطراف المعنية: أعضاء النيابة، أعضاء الجهات القضائية، والعاملين في الجهات الفنية مثل خبراء الأدلة الجنائية، على تحليل الأدلة الرقمية وفهم دلالاتها غير المباشرة وتقييم مدى موثوقيتها. فالعدالة لا تتحقق بمجرد توافر دليل، بل بقدرة هذه الجهات على تفسيره تفسيرًا فنيًا وقضائيًا دقيقًا، يضمن سلامة الإجراءات وحجيته القانونية.

وفي القضايا الجزائية، تُعد القرائن من العناصر الجوهرية لتكوين غلبة الظن التي تنزل منزلة اليقين عند تقدير القاضي، وهي مستمدة من الأدلة المعروضة في الدعوى. والقاعدة الفقهية تقول: “ما قارب الشيء أخذ حكمه”. وعند الانتقال إلى الأدلة الرقمية غير المباشرة، ينطبق المفهوم نفسه بطريقة استدلالية: فهذه الأدلة تكشف عن آثار وسلوكيات رقمية يمكن تحليلها وتوثيقها بدقة لتصبح قرائن رقمية، وبناءً على منهجية جمعها وتحليلها وتوثيقها، تُمكّن الجهات القضائية من تكوين تقدير قضائي موثوق يضمن سلامة الحكم وحجية الأدلة الرقمية.

وفي حين اعتمدت بعض الدول أنظمة إجرائية رقمية متخصصة -كما في سنغافورة والمملكة المتحدة في مجال الطب الشرعي الرقمي القضائي -تمتلك المملكة بنية تنظيمية مؤهلة للانتقال إلى هذا المستوى. فجهات مثل هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، والهيئة الوطنية للأمن السيبراني، والنيابة العامة، ووزارة العدل، ووزارة الداخلية، جميعها تملك أدوارًا متقاطعة يمكن تنسيقها ضمن إطار تشريعي متكامل للأدلة الرقمية.

ختامًا، يتضح من استعراض طبيعة الأدلة الرقمية غير المباشرة أن التعامل معها لا يمكن أن يخضع للإجراءات التقليدية ذاتها المطبقة في الجرائم العادية. فهذه الأدلة تستند إلى وقائع فنية دقيقة، وتستلزم إطارًا إجرائيًا متخصصًا يضمن سلامتها من مرحلة الجمع إلى مرحلة التقييم القضائي. ومن خلال تتبع الممارسات الحالية، يتبيّن أن الأدلة الرقمية غير المباشرة لم تُفعَّل بعد كدليل للإثبات، وإنما تُستخدم بجهود فردية واجتهادات محدودة، رغم قابليتها لأن تكون ركيزة موثوقة متى ما وُضعت لها بنية نظامية متكاملة.

ومن هنا تبرز الحاجة إلى تطوير أو استحداث نظام إجراءات جزائية مستقل للجرائم المعلوماتية، يُراعي طبيعتها التقنية وتعقيداتها الرقمية، ويحدّد آليات جمع الأدلة وحفظها وتحليلها بما يضمن حجيتها أمام القضاء. كما يُستكمل ذلك بتعزيز القدرات الفنية لأعضاء النيابة والقضاة والعاملين في الجهات الفنية عبر تدريبٍ مستمر، وتكاملٍ مؤسسي بين الخبرة التقنية والمنهج القضائي. إن تحقيق العدالة في الفضاء الرقمي مرهون بقدرتنا على مواءمة الإجراءات مع واقع التقنية، دون الإخلال بأصول العدالة ومبادئها.

#تشريعات #قانون #وزارة_العدل #أدلة_رقمية

تم تعطيل التعليقات.