Skip to content Skip to footer

الملكية الفكرية في عصر الذكاء الاصطناعي: من يملك المصنفات المولّدة آليًا؟

شهد العالم في السنوات الأخيرة طفرة غير مسبوقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، حيث باتت الآلات قادرة على إنتاج نصوص، صور، موسيقى، وأعمال فنية قد يصعب أحيانًا التمييز بينها وبين المصنفات البشرية. هذا التطور المذهل يطرح تساؤلًا محوريًا: من يملك الحقوق الفكرية لهذه المصنفات؟ هل هو المبرمج الذي طور الخوارزمية، أم المستخدم الذي أدخل الأوامر، أم أن الذكاء الاصطناعي ذاته يمكن اعتباره “مؤلفًا”؟

التحديات القانونية للملكية الفكرية في ظل الذكاء الاصطناعي

يتمثل التحدي الأول في أن أغلب أنظمة الملكية الفكرية، سواء القوانين الوطنية أو الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية برن (Berne Convention)، تفترض أن المؤلف يجب أن يكون شخصًا طبيعيًا. وبالتالي، فإن إسناد صفة المؤلف للآلة يثير إشكالية جوهرية.

أما التحدي الثاني، فهو تحديد “الإسهام البشري” المطلوب لاكتساب الحماية. فهل يكفي أن يكتب المستخدم تعليمات بسيطة (“Prompt”) ليعتبر مؤلفًا؟ أم يجب أن يكون هناك دور إبداعي أعمق؟

إضافة إلى ذلك، فإن بعض المصنفات المولّدة تعتمد على بيانات أو أعمال سابقة موجودة على الإنترنت، مما يثير مخاوف حول انتهاك حقوق المؤلفين الأصليين أو استخدام بيانات محمية دون ترخيص.

المواقف العالمية والتشريعات المقارنة

الاتحاد الأوروبي: يتبنى موقفًا حذرًا، حيث يشترط أن يكون المؤلف بشرًا، لكنه يدرس إدخال أطر تنظيمية لحماية الابتكار وضمان التوازن مع حقوق المؤلفين.

الولايات المتحدة: مكتب حقوق المؤلفين الأمريكي رفض تسجيل أعمال أنتجها الذكاء الاصطناعي وحده، مؤكّدًا أن الحماية تقتصر على الإبداع البشري.

بريطانيا وأستراليا: أقرت بعض التشريعات إمكانية اعتبار “الشخص الذي رتب لإنتاج العمل” مؤلفًا، في محاولة لمعالجة الفراغ القانوني.

الدول العربية: معظم التشريعات لم تتطرق صراحةً لموضوع المصنفات الآلية، لكنها قد تُخضعها للأحكام العامة، مما يفتح الباب لاجتهادات قضائية مستقبلية.

السيناريوهات المطروحة لملكية المصنفات

تثير مسألة ملكية المصنفات المولَّدة آليًا جدلاً واسعًا بين الفقهاء والمشرّعين، وقد طُرحت عدة سيناريوهات رئيسية لمعالجة هذا الفراغ القانوني. يرى اتجاه أول أن الملكية يجب أن تُنسب للمستخدم الذي أطلق عملية التوليد وحدّد الهدف، باعتباره صاحب الإرادة المباشرة في إنتاج العمل، وهذا الطرح يجد دعمًا في بعض التطبيقات العملية حيث يُعتبر المُدخل البشري عنصرًا حاسمًا في الإبداع. بينما يدفع اتجاه ثانٍ إلى نسب الملكية للمبرمج أو الشركة المطوِّرة للنظام، بحجة أنهم وفّروا الخوارزميات والبنية التحتية التي جعلت الإبداع ممكنًا، وهو ما أشار إليه مكتب حقوق المؤلفين في المملكة المتحدة عام 1988 عند إقرار قاعدة “المؤلف هو من يرتب لإنتاج العمل” بالنسبة للبرامج الحاسوبية.

في المقابل، يعتبر اتجاه ثالث أن هذه الأعمال يجب أن تُعامل كـ ملك عام (Public Domain) في حال غاب أي تدخل إبداعي بشري جوهري، وهو موقف عبّرت عنه الولايات المتحدة عندما رفض مكتب حقوق المؤلفين تسجيل صور أنشأها الذكاء الاصطناعي وحده في قضية “Thaler v. Perlmutter” عام 2023. وأخيرًا، يطرح خبراء الملكية الفكرية خيارًا رابعًا يتمثل في إنشاء إطار قانوني خاص ينظم حقوق المصنفات الآلية بشكل صريح، على غرار الدعوات الصادرة عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) لعقد مشاورات دولية منذ 2019 بهدف صياغة قواعد جديدة توازن بين الابتكار وحماية حقوق المؤلفين التقليديين.

التوجه السعودي والعربي

في السعودية، يُلاحظ أن نظام حماية حقوق المؤلف لم ينص صراحة على الذكاء الاصطناعي، لكنه يركز على عنصر “الإبداع البشري”. ومع ذلك، فإن انخراط المملكة في مجال التقنيات الناشئة (عبر “سدايا” ومبادرات الرؤية 2030) قد يدفع مستقبلاً إلى تطوير تشريعات خاصة تراعي المصنفات المولّدة آليًا، خصوصًا مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام، التعليم، والابتكار الصناعي. وفي هذا السياق، أطلقت الهيئة السعودية للملكية الفكرية (SAIP) دليل المبادئ التوجيهية للمصنفات المولّدة عبر الذكاء الاصطناعي في مجال حقوق المؤلف، في خطوة نوعية تهدف إلى توضيح الرؤية الشاملة حول نطاق حماية حقوق المؤلف في ظل التطور المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يعكس توجهًا رسميًا نحو استباق التحديات القانونية التي يفرضها هذا المجال المتطور.

الخلاصة

أضحى الذكاء الاصطناعي لاعبًا رئيسيًا في إنتاج المعرفة والإبداع، لكن الأطر القانونية التقليدية تقف عاجزة عن مواكبة هذا التحول. إن الإجابة على سؤال “من يملك المصنفات المولّدة آليًا؟” تتطلب إعادة تعريف لمفهوم المؤلف والابتكار، ووضع قواعد تحقق التوازن بين حماية الحقوق، تشجيع الابتكار، ومنع إساءة استخدام التقنية. وفي النهاية، يبدو أن المستقبل سيشهد صياغة أنظمة جديدة تواكب الواقع الافتراضي والإبداع الآلي، تمامًا كما استحدث القانون في الماضي حلولًا للثورة الصناعية والرقمية.

#الملكية_الفكرية #الذكاء_الاصطناعي #حقوق_المؤلف #التقنيات_الناشئة