بقلم أ/ منيرة راشد المرشد – محامية ومستشارة قانونية أولى
مقدمة عن الابتكار القانوني
يُفسِّر معجم الرياض للغة العربية المعاصرة كلمة (ابتكار) بمعنى: الإبداع والاختراع. وهذا التفسير القصير جدّاً والعام جدّاً يجعل الابتكار بطبيعته حاضناً في معناه لكافة العلوم والتخصصات. ويُوازي تلك السعة في معنى الابتكار في اللغة العربية، ما جاء به مؤشر الابتكار العالمي الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، والذي يقيس الابتكار في اقتصاديات الدول من خلال (78) مؤشر فرعي، جاء منها مؤشر (الباحثين) الذي يعد مؤشراً فرعياً لمؤشر الأبحاث والتطوير الذي يندرج تحت عنوان رئيسي هو: (رأس المال البشري والبحث)، والذي يتعلّق بمشاركة الباحثين المحترفين في تصوّر وإنشاء معرفة جديدة. من خلال القيام بالأبحاث وتحسين وتطوير المفاهيم، والنظريات، والنماذج، والآليات الفنية، والأدوات، والبرمجيات، والمناهج التشغيلية.
ماذا أريد أن أقول من خلال ذلك؟
إن الابتكار القانوني مشمول وذو جدوى اقتصادية، ولا يقتصر الابتكار في طبيعته ومعناه وأثره وجدواه على الاختراعات أو العلوم البحتة أو التطبيقية. وهذا يظهر في المؤشر الذي تمت الإشارة إليه سابقاً (الباحثين) حيث يتضمن المؤشر عناصر لما يشمله معنى “المعارف الجديدة”، والتي منها المفاهيم والنظريات والنماذج، وهي عناصر واقعية في ممارسة العمل القانوني وتستدعي البحث والتحسين والتطوير المُوصل للابتكار فيها، ولذلك نُبيّن في القسم الثالث من هذه المقالة أوجه الابتكار بتلك العناصر بسرد أمثلة تطبيقية مُوجزة.
ولعلّه من الأهمية في هذا السياق، من أجل تحفيز تطوير وسائل الجدوى الاقتصادية، وتحقيق الأثر في التنمية والتطوير من الابتكار القانوني – باعتبار القانون من العلوم الإنسانية المؤثرة – الدعوة إلى القياس والانطلاق من النظر إلى أحد مصادر الدخل لجامعة هارفارد والمتمثلة بالنشر للدراسات والمقالات وبشكلٍ خاصّ دراسات الحالة (Case Studies) وهي دراسات تتضمن وصف وتقييم تفصيلي لموقفٍ أو حالةٍ مّا من الواقع العملي، بغرض استخلاص الرؤى والتصورات منها. (وكذلك المفاهيم والنظريات والنماذج)، وعليه تشمل دراسات الحالة تلك المنشورة من هارفارد مجال العلوم الإنسانية كالإدارة والقانون، حيث بلغ عدد دراسات الحالة في مجال إدارة الأعمال وحده أكثر من (50,000) دراسة. وتحقق الجامعة الإيرادات منها من خلال شراء تلك الدراسات/ أو الاشتراكات من قبل مختلف المدارس والجامعات عالمياً للاطلاع على/ وتدريس الواقع التطبيقي للمفاهيم والنظريات والنماذج المتبعة، جنباً إلى جنب مع شرائها من قبل الشركات والكيانات التنظيمية المختلفة لتحسين وتطوير نماذج العمل لديها.
من أين يُولد الابتكار القانوني؟
عندما يُذكر الابتكار أتصوّر ربما أن الصورة الذهنية التي ترتبط به تدورُ بين النشاط والحيوية والحركة المستمرّة – وأقولُ “ربما” لأن التصورّات ممارسة شخصية تتباين بين الأفراد -، وهذه الصورة الذهنية تدفعني لأقول أن الممارسة العملية الشخصية لي في مجال المحاماة والخدمات القانونية بوجهٍ عامّ أظهرت لي أداتين من أدوات توليد الابتكار القانوني، وهي أدوات تتطلّب بطبيعتها ما يُعاكس الصورة الذهنية للابتكار، لأنها تُمَارس ويظهر أثرها بالتأنّي.
الأداة الأولى هي التحليل. حيثُ يُولد الابتكار بالانتباه للتفاصيل، ومحاولة فهمها، وخلق الروابط بين مختلف العناصر والوقائع والمعلومات. فالتحليل طريقة تفكير، فعند العمل على استشارة، أو قضية، أو دراسة، نبدأ بجمع المعلومات اللازمة (أحكام قانونية من نظام معيّن مثلاً)، ثم إن المعلومات التي تم جمعها لكي تتحوّل لمادة ذات أثر ونتيجة، لابدّ أن يتم تحليلها (تحليل اللغة والغرض من الحكم القانوني ومتى يُمكن تطبيقه وهل ينطبق على حالة العميل أم لا). ويكون التحليل بمحاولة فهم المسألة بشكل شموليّ، أي أن تصبح هناك قدرة على طرح تفسير مدعّم بالحجج والأسباب لمن يسأل، وهذا التحليل ينتج عنه ملاحظات، والملاحظات تُنشئ أفكار، والأفكار تُولّد الابتكار. كما أن هذا التحليل يشمل أيضاً التفكير في “كيفية” عرض تلك النتائج على العملاء من غير القانونيين لضمان فهمهم وتطبيقهم للاستشارة والتوصيات المقدمة.
تخيّل معي من يعمل في مجال الأسهم ويقضي وقتاً كافياً في النظر إلى بيانات السوق وتحليلها، تُصبح القدرة لديه لاتّخاذ تحرّكات وقرارات أكثر جودة ممن لم يبذل من وقته نفس القدر من النظر والتحليل ومحاولة الفهم. وهذا المثال المتعلق بالأسهم له واقع يؤيده فيما ذكره معالي وزير السياحة/ أحمد الخطيب في حلقة برنامج “سُقراط” من أن تلك المراقبة والتحليل أدّت به لكتابة مقال يستقرأ ويحذّر فيه من انهيار الأسهم الذي حصل في العام 2006م قبل شهرين من حدوثه.
بطبيعة الحال، ليست كل عملية تحليل ينتج عنها ابتكار بالضرورة، لكن الابتكار بالضرورة يرتبط بالتحليل والانتباه، لأن التحليل يكشف عن الفجوات، أو الإشكالات، والابتكار يحضر وقتئذ بصفته الحلّ أو المقترح لمعالجة تلك الفجوات أو الإشكاليات، متى كانت تستدعي ذلك.
قد يُقال ماذا أحلل في ممارسة العمل القانوني؟ ونقول هناك الكثير، بل والكثير جدّاً من الموضوعات والممارسات التي يُمكن أن ينشأ عنها مفاهيم، أو نظريات، وكذلك نماذج عمل مُطوّرة ومُبتكرة، ولعلي بكل سرور أطرح الأمثلة التالية والتي لا تمثّل كافّة أوجه التحليل لكنّها غيضٌ من فيض:
– تحليل الأحكام والنصوص القانونية في الأنظمة والتشريعات، وتحويل ما ينطبق منها لمراحل وإجراءات، يُؤدّي لابتكار نماذج عمل في تطبيقها.
– تحليل حزمة التطبيقات القضائية التي تُفسّر وتُطبّق الأنظمة والتشريعات لموضوع معيّن، تُؤدّي لابتكار نظريات تستقرأ نتائج اللجوء للقضاء والمخرجات عنه.
– تحليل المستندات القانونية لممارسة العملاء المتعلقة بتطبيق الحوكمة، يُؤدي لابتكار نماذج عمل ومفاهيم في الالتزام وقياس مستوى الحوكمة.
– تحليل مرئيات ورأي العميل بشأن استشارة قانونية أو دراسة قانونية تم تقديمها أو الحصول على تلك التصوّرات قبل إعدادها (مثلاً: كيف يتصوّر العميل شكل الاستشارة: خريطة إجراءات، نماذج، نقاط)، يُؤدي للابتكار في آلية عرض نتائج الدراسة والتوصيات القانونية على العملاء من مختلف التخصصات.
– تحليل الأحكام القانونية الواردة في الأنظمة والتشريعات ذات الصلة بموضوع معيّن، يُؤدي لابتكار مفاهيم وتعريفات مبتكرة ومطوّرة في ذلك الموضوع من أجل تطبيق تلك الأنظمة والتشريعات في الواقع العملي.
الأداة الثانية هي المناقشة. حيثُ يولد الابتكار من مناقشة نتائج التحليل بين المختصين، وهو أمر يُساعد في الوصول لمعرفة شمولية أو تكوين معرفة جديدة من خلال نتائج تلك المناقشة، والقصة التي أجدُ أنها تؤكّد هذه الأداة هي قصة فلسفية حيثُ يحكى أنّ ثلاثة عميان قد تم إدخالهم على فيل، ثم طُلب منهم أن يلمسوه لمدة عشر ثواني ثم يصفوا ذلك. فالأول الذي قام بلمس الخرطوم قال أنها أفعى، والثاني الذي قام بلمس قدم الفيل قال أنه جذع شجرة، والأخير الذي قام بلمس أذن الفيل قال بأنه سجاد.
وفلسفة هذه القصّة – كما قيلت لنا – في أن عمر الإنسان (العشر ثواني) قصير ليُدرك المعرفة كاملة، وأن مشاركة ما لديك من معرفة (أي لو قام العميان بمناقشة ما لديهم من معطيات فيما بينهم) قد تساهم في الوصول إلى معرفة أكمل وأشمل.
لماذا ركّزتُ على أداتيّ التحليل والمناقشة؟
إنه بسبب تأثّرها بعوامل السرعة في الإنجاز وهي تتطلب التأنّي، فأصبحت معطّلة إلى حدٍّ مّا أو تُمَارس حين تكون هناك سعة من الوقت، إذ في ظل الإنتاج السريع ارتفعت الاستعارة للنماذج والممارسات من عقود ودراسات ومرئيات من سياقات مختلفة عن السياق القانوني في المملكة العربية السعودية دون التصفية بالتحليل والمناقشة.
كما أن هذا التركيز يستند إلى إيمان بأثر عميق وشامل لمهنة المحاماة التي تقوم على علمٍ إنسانيّ متجدد ومتطوّر، وفكري بالدرجة الأولى، مع قناعةٍ تامّة بوجود الابتكار في مهنة المحاماة والعلم القانوني بشكلٍ عامّ، وهو الأمر الذي يُسهم في تطوير الاقتصاد القائم على المعرفة.
أوجه الابتكار القانوني
إن الحاجة لمناقشة أحكام قضائية للقضايا التي كنتُ أعملُ عليها في مرحلةٍ مّا، من أجل فهم نتائج تلك الأحكام وإيجاد حلول إثرها، أدّت لولادة (مشروع أُفق) وهو مبادرة قانونية أعملُ عليها مع عدد من المساهمين بعطاءٍ مشكور في عقد لقاءات شهرية لمناقشة الأحكام القضائية والأنظمة والتشريعات بين الممارسين في العمل القانوني.
وبعد أن أكملت اللقاءات ثلاث سنوات، أردنا لنموذج المناقشة أن يكبر ويتّسع نطاقه فأطلقنا مجلة دوريّة في تحليل الأحكام القضائية، حكم قضائي لكل عدد، يكتب فيه عدد من المختصين قراءة قانونية حوله، يعني مناقشة كتابية يطّلع عليها نطاق أوسع من الممارسين في العمل القانوني.
النتيجة التي نستمتع بتحقيقها بعد (52) لقاء حتى الآن و(5) أعداد من المجلة، هي قائمة طويلة من الموضوعات القانونية المتعلقة بالواقع العملي التي تتطلب الابتكار في المفاهيم والنظريات من أجل تطبيقها، ولعلي أذكر مثالين من تلك الموضوعات هي:
- ما هي مُحددات وصف الجهة بأنها جهة “حكومية”، ومدى وجود عوامل تعاقدية تُغيّر تلك الصفة، وبالتبعية الأحكام القانونية التي تخضع لها؟
- ما هي الأدوات والمناهج الفنية لدراسة تأثير الخط/أو شكل العلامة التجارية على زيادة المبيعات في إثبات الأضرار في دعاوى التعويض عن حقوق الملكية الفكرية؟
وجهٌ آخر للابتكار كان يتحقق من خلال عملي مستشارة قانونية أولى لدى شركة د. إياد رضا للمحاماة والاستشارات القانونية، إذ تتبنى وتنتهج الشركة مبدأ العمل الجماعي والمناقشة الجماعية (بين فريق العمل المعيّن للعمل) للمخرجات والدراسات التشريعية قبل تسليمها، وهذه الممارسة حققت أمرين هامّة:
– شجّعت الفريق على ممارسة التحليل ابتداءً من أجل الاستعداد لتلك المناقشات.
– أنتجت تلك المناقشات نماذج عمل مُبتكرة في الدراسات التشريعية، فمثلاً أحد المشروعات الكُبرى كان تنظيم قطاع المحتوى الرقمي (والذي نتجَ عنه إنشاء مجلس المحتوى الرقمي)، وانتهجت الشركة فيه تقسيم العمل لمراحل، منها مرحلة كانت كما يلي:
- بدأت من وضع معايير تُمكّن فريق العمل من جمع التشريعات ذات الصلة.
- تم وضع إطار نقيس فيه صلة تلك التشريعات بالقطاع من عدة جوانب، فنحصر ما تكون ذات علاقة ونستبعد غيرها.
- وضع نموذج تقييم للفجوات والتقاطعات التشريعية للتشريعات التي تم حصرها، وهذا أسفر عنه خارطة تشريعات واضحة المعالم للقطاع ونموذج عمل قابل للتطبيق في مشاريع تشريعية أخرى.
والأمرُ ذاته انطبق في مشاريع أخرى نتج عنها وضع وابتكار أُطر وأدوات لقياس الاحتياج التشريعي والنضج التشريعي، وتطوير مفهوم وتعريف للنضج التشريعي، بحيث يتم تمرير النصوص القانونية والأنظمة والتشريعات على تلك الأُطر والأدوات للوصول إلى نتائج ومعلومات واقعية ومفيدة في وضع التوصيات لصنّاع القرار في عدد من القطاعات في المملكة العربية السعودية.
خاتمة
لعلّي أختمُ هذه المقالة بأن أقول هُناك بُشرى في ظل هذا التسارع في الإنتاج وارتفاع أعداد المبتكرين ما شاء الله، وزيادة الابتكارات – وهو أمرٌ نستبشر به – تقولُ أنه: “لا يُمكن أن تستهلك الإبداع، لأنه يزداد كلما استخدمته.” – مايا أنجلو.